الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أمي تريد الانفصال عن أبي بسبب قسوته ونحن نريد الذهاب معها

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أمي تريد الانفصال عن أبي بسبب تعامله القاسي، وعدم تقديره واحترامه لها، ونحن نريد الذهاب مع أمي بسبب تعامل أبي القاسي معنا، لا أقول في جميع الأوقات أنه قاس، ولكن الحياة معه صعبة جدًا؛ فهو يمنعنا من الكثير من الأمور: كالتواصل مع الأقارب والأصدقاء، ولا يريد أن نزور الناس، أو يقوم بزيارتنا أحد، يريد أن نطيعه في كل شيء، ولا يقبل أن نتوظف إلا إذا أعجبه المكان، ويريد أن نعطيه راتبنا إذا توظفنا، ولا يريد أن يزوج أحدًا، ويقول: إذا كنتم تريدون الزواج فاجمعوا المال لذلك! مع العلم أن أبي مقتدر، ولديه ممتلكات، وبسبب قسوته ترك بعض إخوتي الرجال ومعهم أخي الكبير المنزل، وأمي خائفة من أن يترك أخي الصغير المنزل، ويبتعد عن الدين.

كما أنه يرفض أن يزوج أخواتي البنات لأي شخص، وإنما فقط لأولاد العم، مع العلم أن أولاد عمي كلهم صغار السن، ولا يتجاوزون 20 سنةً، أما أخواتي فهن فوق عمر 25 سنةً، وأبي يعلم أن أخواتي يرفضن الزواج من أولاد عمي، فقررت أمي الانفصال عن أبي للحفاظ على العائلة.

سؤالي هو: هل إذا ذهبنا مع أمي نعتبر عاقين لوالدي؟ على الرغم من أن أبي لا يريد ذلك، ولا يسمح لنا بالذهاب مع أمي، ودائمًا ما يذكرنا ببر الولدين، والعقوق، وما حكم الدين لهذا الفعل؟

استشرنا أحد كبار العائلة، وأخبرنا بأن نقدم طلب إبعاد لأبي حتى لا يؤذينا؛ فأبي عندما يغضب يتصرف بقسوة، كما أنه يعاني من مرض الضغظ والسكر، ويقول أنتم بلا فائدة، والحقيقة أنني أخشى إن تركناه أن حالته تزداد سوءًا، فهو لا يريد وجودنا في حياته، ويضغط على إخوتي الأولاد ليتركوا المنزل، وفي المقابل هو يحب السيطرة، ولا يتوقع أننا في يوم سنتركه، ومن المحتمل أننا إذا تركناه ستحصل له صدمة، فهل نكون بتركه عاقين؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أحمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -ولدنا الحبيب- في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله تعالى أن يُصلح أحوالكم كلّها، ويُديم الألفة بينكم وبين والدكم وأمّكم، وجميع أفراد أسرتكم.

ونصيحتنا -أيها الحبيب- أن تستعملوا الرفق في التعامل مع الأب، والصبر عليه، وعلى ما يصدر منه من أذًى في بعض الأحيان، فـ (الرفق ما كان في شيءٍ إلَّا زانه، وما نُزعَ من شيءٍ إلَّا شانه) كما قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والكلام الطيب له أثرٌ في النفوس، وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أنه يُصيّر العدو صديقًا حميمًا، فكيف بالوالد! فقد قال الله: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم}.

فنحن نتوقع -أيها الحبيب- أن صبركم على والدكم، ومحاولتكم لكسر أنفسكم أمامه بالتذلُّل له، كما قال الله عز وجل: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}، أي ليس بسبب الضعف، ولكن بسبب الرحمة به والإحسان إليه تذلَّل له.

ونحن على ثقة من أنكم لو استعملتم هذا الأسلوب فإنه سيُؤثّر في والدكم، وإن لم يُنهِ كل تصرفاته السيئة فإنه سيُقلّل منها كثيرًا، فاحتسبوا أجركم عند الله تبارك وتعالى في محاولة الإحسان والبر بالوالد، والصبر عليه.

وأمَّا الانتقال عن السكن الذي هو فيه؛ فإنه راجعٌ إلى المصالح والمفاسد المتعلقة بذلك؛ فالأصل أنه يجب عليكم أن تُطيعوا والدكم إذا أمركم بشيءٍ، وكان في أمره منفعة له، وليس فيه ضررٌ عليكم، فيجب عليكم أن تُطيعوه، وإن كان العلماء يختلفون كثيرًا في حدود هذه الطاعة، ولكن قد جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فاحفظ، وإن شئتَ فضيِّع)، ففي الحديث إرشاد إلى عدم الاستهانة بأمر الوالد، وعدم التقليل من شأن بِرِّه، والإحسان إليه، وعدم التساهل والتسامح في مخالفة أوامره، فإذا كان يأمركم بالبقاء معه في البيت، ويتضرر بخروجكم منه؛ فإنه يلزمكم البقاء معه.

لكن يستثني العلماء ما إذا كان الضرر الذي يحصل للوالد إنما يحصل له بسبب حماقته، وإلَّا فالناس يتعارفون على أن هذا النوع من المخالفة من الأولاد لا تُؤدي إلى ضرر الوالد، إذا كان الأمر هكذا فإنه في هذه الحالة لا يجب عليكم طاعة الوالد، ومع كونها غير واجبة، فإنها تبقى مستحبّةً أكيدة الاستحباب.

فالأمر إذًا يحتاج منكم إلى كثير من التأنّي، والرويّة، والتمهُّل، وعدم المسارعة إلى مخالفة الوالد؛ فإنه قد يُوقعكم في العقوق، وتحتاجون إلى الاستفسار والسؤال عن كل جزئيةٍ من الجزئيات، فاستعينوا بالله سبحانه وتعالى، وحاولوا إصلاح الحال بينكم وبين أبيكم.

وأمَّا رفضه للعمل في أن تعملوا إذا كانت أعمالاً مباحةً لتعفوا أنفسكم؛ فإنه ليس من حقه أن يمنعكم من العمل، وإذا أخذتم أجور أعمالكم فليس من حقه أن يأخذ هذه الأجور ما دام مستغنيًا مكتفيًا، وفي الوقت نفسه لا يجب عليه أن يُزوّج أحدًا من أولاده الذكور، وهذا رأي أكثر العلماء، بل عليهم أن يسعوا ويجمعوا مالًا ليُعفُّوا به أنفسهم، ويمكن التوصّل إلى قضاء مثل هذه الحاجات باللين والرفق بالوالد، والتودُّد إليه، ليُعين أبناءه الكبار على الزواج.

أمَّا ما ذكرتم بشأن إبعاده عن البلد الذي أنتم فيه؛ فإن هذا فيه عقوق له، واحذروا من أن يدلُّكم أحد ممَّن لا يعلم حدود الله تعالى وأحكامه، بأن تقعوا في معصية الوالد، وإغضابه بغير حق.

وليس من حق الوالد أن يمنع بناته من الزواج إذا تقدّم لهنَّ الأكفاء، فإذا امتنع لغير عُذرٍ شرعيٍّ فإنه عاضل، فينبغي أن يُنصح باللين، والأسلوب الحسن، فإذا لم يستجب لذلك فمن حق البنت أن ترفع أمرها إلى القاضي الشرعي لينظر في الأمر، فقد يُجبر الوالد على التزويج، وقد يتولى تزويجها بنفسه.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقكم لكل خير.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأكثر مشاهدة

الأعلى تقيماً