الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالاحتجاج برواية المبتدع محل خلاف بين أهل العلم، وقد ذهب كثير من المحققين إلى قبول روايته إذا كان صدوقًا، ولم يكن في روايته تأييدٌ لبدعته، مع مراعاة نوع تلك البدعة، وراجع الفتوى: 219406.
وعليه؛ فإنه لا يمكن الحكم في هذه المسألة بحكم عام، بل ينظر إلى نوع البدعة، وإلى حال كل مبتدع بخصوصه، وإلى الشرط الذي حصل الإخلال به في تلك الرواية، فإن كان ردّ الاحتجاج به لأجل التردد في صدق اللهجة وإتقان الحفظ، ونحوه، فمثله يصلح الاعتبار بروايته في المتابعات والشواهد، شأنه شأن غيره من الرواة، مع مراعاة الضوابط الأخرى، وكذا إن كان الرد للرواية لأجل كونه داعية إلى بدعته، وقد عرف منه صدق اللهجة، واستعظام الكذب، فقد يؤخذ به في المتابعات والشواهد، وعلى هذا يحمل صنيع البخاري في روايته عن عمران بن حطان.
قال ابن حجر في هدي الساري: عمران بن حطان السدوسي، الشاعر المشهور: كان يرى رأي الخوارج... وكان عمران داعية إلى مذهبه ... وقد وثقه العجلي.
وقال قتادة: كان لا يتهم في الحديث.
وقال أبو داود: ليس في أهل الأهواء: أصحّ حديثًا من الخوارج، ثم ذكر عمران هذا وغيره... قلت: لم يخرّج له البخاري سوى حديث واحد من رواية يحيى بن أبي كثير عنه، قال: سألت عائشة عن الحرير... وهذا الحديث إنما أخرجه البخاري في المتابعات، فللحديث عنده طرق غير هذه من رواية عمر وغيره... فلا يضر التخريج عمن هذا سبيله في المتابعات. والله أعلم. انتهى.
وقال السخاوي في فتح المغيث: فإن قيل: قد خرّج البخاري لعمران بن حطان ... مع كونه كان داعية إلى مذهبه، فقد مدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي، وذلك من أكبر الدعوة إلى البدعة. فقد أجيب عن التخريج لأولهما بأجوبة: ... ثالثها: وهو المعتمد المعول عليه، أنه لم يخرج له سوى حديث واحد مع كونه في المتابعات، ولا يضر فيها التخريج لمثله. انتهى.
وأما إذا كان ردّ الاحتجاج برواية المبتدع، لأجل كفره ببدعته، ونحو ذلك من استحلال الكذب لنصرة مذهبه، فلا يعتبر بروايته في المتابعات والشواهد، ولا يحتج به من باب أولى.
قال الذهبي في ميزان الاعتدال: فلقائل أن يقول: كيف شاع توثيق مبتدع، وحد الثقة العدالة والإتقان، فكيف يكون عدلاً وهو صاحب بدعة؟ وجوابه: أن البدعة على ضربين، فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو، ولا تحرق. فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين، والورع، والصدق، فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة. ثم بدعة كبرى بالرفض الكامل، والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أو الدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة.
وأيضاً فلا أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل من هذا حاله، حاشا وكلا. انتهى.
ومثل هذا النوع الذي اتخذ الكذب شعارًا لا يقبل حتى في المتابعات والشواهد على ما قرره أهل العلم، قال ابن الصلاح في المقدمة: ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت: ... ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك، لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته. وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهمًا بالكذب، أو كون الحديث شاذًا. انتهى.
والله أعلم.