أَقدْ فَرَغْتَ يا أَبَا الوليد؟

11/05/2025| إسلام ويب

بعد أن فشل المشركون في إيقاف النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه ودعوته بالسخرية والإيذاء، انتقلوا إلى أسلوب الإغراءات والمساومات لعله يرجع عن الإسلام الذي جاء به، أو يتنازل عن بعض الحق الذي يدعو إليه، فأرسلوا عُتْبة بن ربيعة ـ وهو من كبارهم وساداتهم ـ ليعرض عليه ما قد يرونه حلاً ليترك دعوته التي جاء بها. قال الزركلي في "كتاب الأعلام": "عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أبو الوليد، كبير قريش وأحد ساداتها في الجاهلية، كان موصوفاً بالرأي والحلم والفضل، خطيبا، نافذ القول.. أدرك الإسلام وطغى، فشهد بدراً مع المشركين، وكان ضخم الجثة، عظيم الهامة، طلب خوذة يلبسها يوم بدر فلم يجد ما يسع هامته، فاعتجر على رأسه بثوب له، وقُتِل في غزوة بدر الكبرى كافراً".

ذكر ابن هشام في السيرة النبوية، والبيهقي في دلائل النبوة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أرسلت قريش عتبة بن ربيعة - وهو رجل رزين هاديء - فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا ابن أخي، إنك مِنَّا حيث قد علمتَ من المكان في النسب، وقد أَتَيْتَ قومَك بأمر عظيم فَرَّقْتَ به جماعتهم، فاسمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عليك أموراً لعلك تقبل بعضها، إن كنتَ إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ تريدُ شرفاً سَوَّدْناكَ علينا، فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنتَ تريد مُلْكًا مَلَّكْناكَ علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْياً (مس من الجن) تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطِّبَّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبْرَأَ .. فلما فرَغَ قوله، تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه صَدْرَ سورة فُصِّلَت: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}(فصلت: 7:1)، حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}(فصلت: 13)". وفي رواية: (حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقَدْ فرغْتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مِني، قال: أفعل). 
وفي رواية لابن كثير في "البداية والنهاية": "..وأنه لما قال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَاٍد وَثَمُودَ}(فصلت: 13)، أمسك عتبة على فيه (فمه)، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش! ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمَّد، وأعجبه كلامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه، فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة! ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمَّد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة، جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمَّد فغضب، وأقسم بالله لا يكلم محمداً أبداً، وقال: لقد علمتم أني أكثر من قريش مالاً، ولكني أتيته - وقصَّ عليهم القصة - فأجابني بشيء والله! ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة - وقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}(فصلت:13)، فأمسكت بفيه (فمه)، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخِفْتُ أن ينزل عليكم العذاب".

في هذا الموقف النبوي مع عتبة بن ربيعة الكثير من الفوائد والعبر، ومن ذلك :

أدب الحوار حتى مع الكافر :

استمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كلام عتبة باهتمام، رغم أن عتبة كان كافراً ويساومه على ترك دعوته، ثم تكلم معه النبي صلى الله عليه وسلم بأدب وحكمة، وكنَّاه بكُنيته وقال له: (أقدْ فرغت يا أبا الوليد؟)، وبذلك يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أدب الحوار ـ مع الصديق والعدو، والمؤمن والكافر ـ، وأن يتسع صدرنا لاستماع وجهة نظر المخالف لنا، مهما كانت وجهة النظر هذه مرفوضة عندنا، وذلك لأن الحوار بالحكمة والرفق من أحسن الوسائل في إقناع المخالف وتبليغ الدعوات، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل: 125)، قال ابن كثير: "أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن، برفق ولين وحسن خطاب". فمن آداب الحوار مع الآخرين ـ في الهدي النبوي ـ: الاستماع إلى شبهاتهم وآرائهم والرد عليها، وإنزالهم منازلهم وإن كانوا كفاراً أو عصاة، وهذا ما فعله صلى الله عليه وسلم مع عتبة.

إغراءات ومساومات :

لم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم لإغراءات عتبة حين قال: (إن كنتَ إنما تريد بهذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنتَ تريد شرفاً سَوَّدْناكَ علينا (جعلناك سيداً علينا)، فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنتَ تريد مُلْكًا مَلَّكْناكَ علينا). لقد حاول المشركون إغراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمال والشرف والملك، لعله يرجع عن الدين الذي جاء به، أو يتنازل عن بعض الحق الذي يدعو إليه، فلم يفلحوا، بل قال لهم صلى الله عليه وسلم في موقف آخر في وضوح وحسم وثبات أنه لن يترك هذا الأمر الذي بعثه الله عز وجل به، كما أنكم يا قريش لا تستطيعون أن تشعلوا من الشمس شعلة، ولو جئتم بشعلة من الشمس ـ مع استحالة ذلك وعدم قدرتكم عليه ـ ما تركت هذا الحق والدعوة إليه، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: (أَترَون هذهِ الشَّمس؟ قالوا: نعم، قال: ما أنا بَأَقدرَ علَى أن أَدَعَ لكُم ذلك مِنْ أن تُشْعِلوا لي منها شُعْلَةً) رواه الطبراني.

يقين الكفار بصدق النبي صلى الله عليه وسلم :

لم يألف أو يلحظ كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم السحر والشعر, ولم يجربوا عليه كذبا طوال حياته ومن قبل بعثته، ولكنه العناد والجحود الذي يمنع صاحبه من الهداية وقبول الحق، قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام: 33)، قال ابن كثير: "أي: لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم". وقد ظهر ذلك المعنى في الموقف النبوي مع عتبة، وذلك حين بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته للقرآن: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَاٍد وَثَمُودَ}(فصلت:13)، خشي عتبة من ذلك لعلمه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأن ما يقوله يقع، ومن ثم وضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم مدة.. وبعد عودة عتبة لقريش بغير الوجه الذي ذهب به من أثر الآيات القرآنية التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليه، واعترافه بأن: ما قاله محمد ليس بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر، وقال لقريش: (فأجابني بشيء والله! ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة)، رغم ذلك كله فقد غلبه ما في قلبه من كِبْرٍ وجحود فلم يُسْلِم، وكانت خاتمته أن قُتِل يوم بدر، وأُلْقِيَ مع صناديد الكفر في البئر، وخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ويا عتبة بن ربيعة، ويا أميَّةَ بنَ خلفٍ، هل وجدتُم ما وعدَ ربُّكم حقًّا؟ فإنِّي وجدتُ ما وعدني ربِّي حقًّا) رواه النسائي وصححه الألباني.

لقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صابراً ثابتاً أمام إيذاء المشركين، رافضاً ومستعلياً على إغراءاتهم ومساومتهم في مواقف كثيرة، ومنها موقفه مع عتبة بن ربيعة، ومع هذا، فقد بقي البعض من المستشرقين (كريمر الألماني، وفان فلوتن الهولندي) وأعداء الإسلام، يفترون ويزعمون أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت له من وراء دعوته ورسالته دوافع سياسية، ورغبة في السيادة والملك، والرد عليهم واضح جليّ من خلال قصة عتبة بن ربيعة، وكذلك من جوابه صلى الله عليه وسلم على زعماء قريش قبل عُتبة حين أغروه وساوموه قائلا لهم ـ كما ذكر ابن هشام وابن كثير في السيرة النبوية ـ: (ما جئْتُ بما جئْتُكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".

www.islamweb.net